[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
كان يشعر بفراغ كبير ..
جعل ذهنه كصحراء ممتدة بلا نهاية ..
لا يتعاقب عليها عواصف أو زحف يحرك صفحتها الراكدة ..لهذا كان جدول أعماله يبدأ من لا شئ وينتهي ب (لا أعرف ماذا أفعل) ..
خطواته متعرجة تائهة تسير من تلقاء نفسها ..
والخواء كان مسيطرا على كيانه .. خواء داخلي فظيع ، كأنه سوط جلاد يفتت أعضاءه ..
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
نظر إلى يمينه نظرة عابرة وقرأ لافتة مزركشة بأضواء الليل ( مقهى كليك للانترنت ) .. سيدخل ، بالتأكيد سيفعلها ، فهذا أول شئ يندرج على جدول أعماله لهذا اليوم ..
-مقهى انترنت .؟ لا بأس .. هكذا قال في نفسه التي ليس لديها أي تعليق على قراراته ..
جلس على كرسي الانتظار حتى يفرغ له مكان ، أشعل سيجارته السابعة لهذا اليوم وراح ينفث دخانها باستمتاع ، ومع سحب الدخان تتداعى الخواطر دوما ، وهنا أقول بأن الدخان اختراع ملهم ، ما إن تنفث أولى سحبه حتى تتذكر كل مآسيك وأحزانك وغلبة الزمان عليك وهموم البيت ومشكلتك مع الجيران ونذالة صديقك الوفي وغدر فتاة كننت لها حبا يوما ما ، لهذا يمكنني تفهم سر الأرباح الطائلة التي تجنيها شركات الدخان ، لابد أن هذه الأسباب تأتي قبل سبب الإدمان..
لهذا كانت الذكريات قد أعلنت عن نفسها في صحراء ذهنه ، ومع سحب الدخان راح عقله يعود للوراء .. لقد تخرج من الجامعة قبل عامين بتفوق ملحوظ .. و( حفيت قدماه في البحث عن عمل ) و ( سيتصلون به عما قريب ) ولقد علم بأن هذا اليوم القريب لن يأتي إلا حين تتغير قائمة معرفيه إلى أشخاص من ذوي الوزن الثقيل .. لهذا وبعد أن شعر بالاغتراب والغربة ، وبأنه نملة تسعى من جبل إلى جبل بلا جدوى ، هنا قرر أن يغرس رايته البيضاء في عالم الغابات هذا ويستبدل الآمال والأحلام بفتات من أنياب الواقع يلقيها إليه .. فيما عدا ذلك هو كقطعة الأثاث في المنزل ، لو كانت قطع الأثاث تتجول من آن لآخر بلا هدف ..
-لقد فرغ مكان لك يا سيدي
قالها صاحب المقهى له قاطعا حبل أفكاره التي كان يود أن تستمر فهي تتناسب مع نفسه الحزينة ودخان سيجارته الفواح الذي بدا كعطر شذي في ظلماء نفسه ، لهذا حان وقت انتهاء الذكريات العالقة فأطفأ عقب سيجارته واتجه إلى أحد أجهزة الكمبيوتر ..
تأمل سطح المكتب والأيقونات المتراصة ، لشدة ما يتطور علم الحاسوب بسرعة جنونية ، إنه يتصرف كالوباء المعدي الفتاك ، يحبو فيركض فيرمح بسرعة جنونية تاركا خلفا أخاديد تنتشر في كل مكان ..
وعلى الخلفية السوداء كالمرآة نظر إلى وجهه مليا ، الحق أنه تفاجئ فهو يكره المرآة لأنها تذكره باللوحات المرعبة التي يرسمها فنانين معقدون نفسيا وانعكاس صورته هو تجسيم حقيقي لهذه اللوحات .. يا الله كم حفرت أخاديد الهموم خطوطها على وجهه ، هاته العينان خلت من بريق الشباب الطامح الشغوف ، هذه الملامح تيبست كخشب أبنوسي جاء من قعر الصخور الجبلية ..
تنهد بعمق ثم ضغط بزر الماوس على ( الماسنجر ) وفي خانة الاسم كتب : [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
ثم أدخل كلمة سر معقدة تعبر بالتأكيد عن البراكين التي تصطرع بداخله ..
ثم فتحت نافذة المحادثة أمامه ، وعليها تراصت الوجوه الحمراء والخضراء ، بعضها محظور ، وبعضها مسموح ، وبعضها يمهد لحذفه ، وبعضها لا يعرف لما أضافها ..
وفي قائمة ( بقع نور في الظلام ) والتي لا تتضمن سوى (كونتاكت) وحيد .. وجد الوجه أخضر ، مما يعني أنها متصلة ..
أخرج سيجارة أخرى لأن هذه هي تقاليد المحادثة العصرية كما تعلمون ، وبدأ يكتب ببطء مرتعش كلمات تخرج كالشوك من الحلقوم من شدة الرهبة :
- مرحبا ( نورا ) ..
- كيف حالك اليوم
- هل أنت بخير
- اشتقت لك كثيييرا جدا
ثم يضع رسومات لورود ورؤوس قلب وبعض الحركات التي تعبر عن نفسيته ..
وتجيب هي :
- أهلا ( أيمن )
- أنا بخير يا حبيبي
- وأنا اشتقت لك كثيرا أيضا
وتطول المحادثة لساعات ، وتمتلئ الأرض تحت قدميه بعقب السجائر لأن الانفعالات لا تطفئها إلا السجائر ، وما أكثر الانفعالات التي تعربد في أعماقه..
في النهاية تقول له ( سأذهب الان يا أيمن .. موعدنا غدا في نفس الموعد ) فيغرقها بعبارات الاشتياق واللوعة وبأن قدر اللحظات الجميلة أن تنتهي في النهاية ..
ثم يذهب ممنيا نفسه بأمسية أخرى مثل هذه غدا ، ينظر لصاحب المقهى الذي أدار له ظهره ، ثم بخفة الفهد يتسلل نحو الباب ويفر بجلده من دفع الحساب ، نحن لن نلومه لأنه أصلا لا يملك المال لكي يدفعه فهو لم يتوقع أن تقوده قدماه إلى مكان يدفع فيه نقودا مقابل جلوسه أمام الكمبيوتر ، وسنغفر لقلبه المحطم هذه الزلة ..
في اليوم الثاني يختار مقهى آخر مقررا في ذات اللحظة أن يكون جنتلمان لهذا اليوم ويدفع الحساب مثل بقية البشر حتى لو تسول من أجل الحصول عليه .. لهذا فإن جدول أعماله لهذا اليوم لا يتضمن سوى موعد واحد ، وعليه أن يتقن فن قتل الوقت بشتى اساليب الإعدام المعروفة والمجهولة إلى أن تحين الساعة التاسعة ليلا على الماسنجر .
إن (نورا ) هي أكثر ما يبهجه في هذه الحياة ، كلماتها دافئة وأحاسيسها مرهفة ، أحيانا تتحدث بلسانه وتعبر بطلاقة عن أفكاره وتتجول بحرية في مشاعره ، كم من مرة اقترحت عليه حلولا جذرية وكم من مرة منعت ألف دمعة من مغادرة عينه .. لهذا أحبها حتى لو كانت في بلد أخرى كما تقول هي و .. :
- مرحبا ( نورا)
- اشتقت لك كثيرا
فتقول كلماتها السحرية التي يخيل إليه أنها تنساب وتسري في أعماقه :
- لقد تركت بالأمس فقط يا أيمن ، يا لشوقك المجنون ..
فيرد مخرجا الكلمات من حشايا قلبه :
- كل لحظة صمت ، كل دقة قلب ، كل فكرة ، كل جزء من الزمن أنشغل به قليلا عنك ، يجعلني أشتاق لك أكثر وأكثر ..
ويتوالى هذا الكلام تباعا ويغرق هو في بحر الأحلام السرمدي الجميل ، وبطرف عينه يرى صديقه القديم جالس على أحد الأجهزة ، فيترك مكانه لهنيهة ربما كي يفرغ عواطفه في المشي قليلا ، ويقترب من خلف صديقه راغبا في تحيته ثم العودة إلى مكانه ..
هنا تتسع عيناه ، وتدمع مقلتاه ، ويضطرب فؤاده ، ويشل لسانه.. فهناك على شاشة صديقه كان يرى كلماته التي قالها لمن تدعى نورا .. هي ذاتها الكلمات ، ولوهلة شعر بالأرض تميد تحت قدميه ، مثل هذه المواقف تحدث مع الجميع فيسمونها مقلبا ، لكن حدوثها معه يعني كارثة ، فنفسه محطمة وقد تعلقت بقشة واهية ، والان تمخالفر هذه القشة بعنف يعادلها ألف مرة ..
عاد إلى مكانه دون أن يشعر صديقه به ، أغلق الماسنجر ثم أغلق الجهاز وخرج وفي عينيه شياطين تتلوى من لهيبه ، رمق صاحب المقهى بنظرة جامدة انحسرت فيها الدموع ، وألقى ما في جيبه من مال له ، وصار ذهنه الخاوي من أفكار وطموحات الان ملئ بألف عمل يمكن أن يفعله ..
وصل بيته وأغلق الباب خلفه ، وأخرج شهاداته التي حصل عليها وألقاها على الأرض :
- بكالوريوس هندسة كمبيوتر – امتياز مع مرتبة الشرف -
- دورات في تصميم الصفحات على الانترنت.
- دورات بلغات البرمجة المتقدمة .
- دورات في الشبكات .
- دورات في الإدارة والتدبير .
- شهادات تقدير مختلفة .. إلخ
نظر لهذه الشهادات شرزا ، فكلها استنزفت عقله وماله وشبابه ثم حين آن وقت جني الثمار لم تنفعه ولم تكن له معولا .. ليته تعلم كيف يحيا بين الأسود ضرغاما ، ليته تعلم كيف يصنح من الحزن أفراحا ، ليته تعلم كيف يخرج من الزمهرير نيرانا .. ليته قبل أن يتعلم تعلم كيف يتعلم من الحياة ومن التجارب ..
فكر في أن يحرقها ، لكن إيمانه باستحالة دوام الحال جعله يتراجع لهنيهة بسيطة ، لهذا أشعل جهاز الكمبيوتر في حجرته الرثة ، وبدأ يعمل ، تناسى ماديته وامتزجت روحه بعينيه بيديه وهي تسطر أفكاره ، وكانت تختلط كلماته التي يكتبها بدموعه الحبيسة بمشهد صديقه الذي خدعه وحطم نفسه الهشة المحطمة أصلا .. يا الله كم كان عقله مملوء علما وعبقرية ، لكنها طمست في لجة الحياة ..
في النهاية كان يخزن عمله على ديسك صغير وغدا سيذهب إلى مقهى .. وسيبدأ في عمل آخر هذه المرة .. لابد أنه عمل من وسوسة شيطان فريد من نوعه ، شيطان لابد أنه يفهم في هندسة الكمبيوتر جيدا ..
**
نظر على يمينه وقرأ اللافتة ( مقهى السعادة للانترنت ) .. وعندما جلس على أحد الأجهزة .. التمعت عيناه بريقا ، ثم أخرج من جيبه ديسك كمبيوتر صغير .. أدخله في الجهاز ، وبدأت يداه تداعب الأزرار ببراعة وبثبات ، كانت نفسه كطوفان التقى بشلال لكن مشاعره المحطمة كانت أشد غليانا وصراعا ، بدأ في تنزيل البرنامج بإحكام ، هذا البرنامج القادر على إيجاد الثغرات وتدمير أي شئ من خلالها .. ثم بعد أن انتهى اندفع خارجا فاصطدم بصاحب المقهى الذي نظر إليه وهاله منظره ، وبالتأكيد لن ينسى منظره لأنه لم يدفع الحساب أيضا هذه المرة ..
**
هناك عباقرة شبان كثيرون ، لكنهم في النهاية استحقوا لقب ( قرصان انترنت ) عن جدارة .. هناك صينيون ، وهناك أمريكيون ، هؤلاء صنعوا فيروسات فتاكة جعلت الخسائر بمليارات الدولارات .. وما كان ( أيمن ) يختلف عنهم كثيرا ..
(إنه عبقري ..)
لابد أن أحد خبراء الحاسوب قد هتف بهذا النداء في أعماقه إذ رأى براعة الفيروس وحيله في التخفي والتدمير .. إنه أخطر من فيروس (لوف) وأشد فتكا من فيروس الإيدز لو كانت مقارنة كهذه معقولة ..
(إنه معقد نفسيا ..)
لابد أن طبيب نفسي بارع قد قالها للمحيطين به من رجال ذوي أهمية بالغة ، لابد أنهم سألوه عمن يمكن أن يكونه هذا الشخص والدافع من وراء هذا العمل المدمر ..
(يجب أن نجده ..)
هكذا قررت اللجنة المختصة بمعاقبة قراصنة الانترنت لتقديمه للعدالة ، لكنه لم يستحق لقب عبقري جزافا ، هيهات أن يجدوه متى أرادوا أن يجدوه ..
**
كان يشعر بفراغ كبير ..
جعل ذهنه كصحراء ممتدة بلا نهاية ..
لا يتعاقب عليها عواصف أو زحف يحرك صفحتها الراكدة ..
لهذا كان جدول أعماله يبدأ من لا شئ وينتهي ب (لا أعرف ماذا أفعل) ..
خطواته متعرجة تائهة تسير من تلقاء نفسها ..
والخواء كان مسيطرا على كيانه .. خواء داخلي فظيع ، كأنه سوط جلاد يفتت أعضاءه .. لم يتغير الكون بعد فعلته الأخيرة ، بل ازداد سوءا وقتامة ..
نظر إلى يمينه نظرة عابرة وقرأ لافتة بدائية ( منجرة الأمانة ) .. سيدخلها ، بالتأكيد سيفعل ، فهذا أول شئ يندرج على جدول أعماله لهذا اليوم الكئيب ..
- منجرة .؟ لا بأس ، ربما أجد فيها عملا.. هكذا قال في نفسه التي ليس لديها أي تعليق على قراراته ..
**
الان تراه شخصا آخر ..
ثياب رثة تليق بميكامخالفي محنك ، وشعر مغبر ملئ بنشارة الخشب المتناثرة في الأجواء ، ووجه مرهق قادم من قاع الأهوال ، كان منهمكا حقا ، قطرات العرق اختلطت بنشارة الخشب بضربات القلب بثورة الغضب .. مهندس يعمل نجارا .. هكذا كان يحدث نفسه ، ومن يراه يشفق على هذا البائس ، فماذا لو علم أي عقل عبقري ينبض تحت جمجمته.. هذا العقل أنتج فيروس انترنت فتاك ، والآن ينتج أجمل قطع أثاث يمكنك أن تراها .. موبيليات ، خزانات ، طاولات ، أطقم ، تصميمات وتشكيلات إبداعية ، الحق أنه لو لم يكن صاحب المنجرة وغدا لاعترف لنفسه بأن هذا العامل المدعو أيمن يفوقه دقة وبراعة آلاف المرات ..
**
كرر الشرطي الذي أرسلوه ليبحث عن شخص يمكن أن يكون قرصان انترنت سؤاله لصاحب ( مقهى السعادة للانترنت ) :
صفه لنا مرة أخرى لو سمحت .
فيجيب صاحب المقهى :
لقد اصطدم بي ذات يوم ولم يدفع لي الحساب ، لهذا يمكنك أن تطمئن إلى أن ملامحه محفورة بعقلي ، إنه شاب عادي في العشرينات من عمره ، لكن حفرت أخاديد الهموم خطوطها على وجهه ، عيناه خلت من بريق الشباب الطامح الشغوف ، وملامحه تيبست كخشب أبنوسي جاء من قعر الصخور الجبلية .. ثم صمت قليلا وأردف ..
إذا أردتموه فقد رأيته مرارا يدخل تلك المنجرة ، لابد أنه يعمل فيها ..
وأشار ببنانه نحو ( منجرة الأمانة ) ..
**
لم يعتقلوه بتهمة القرصنة ، لم يهينوه لم يعذبوه ، بل والأدهى أنهم لم يسألوه ..
كل الذي فعلوه ، هو أنهم سلموه لرجل أمريكي الملامح واللغة مقابل حقيبة تعلمون بالضبط محتواها ..
وعلى متن الطائرة المغادرة نحو الولايات المتحدة الأمريكية كانا يجلسان معا ، وكان الأمريكي يقرأ على الشاب الذي بجواره – أيمن - بنود العقد الذي سيوقعه حينما يصل إلى ذلك المكان الملئ بأجهزة الكمبيوتر المتطورة والسرية ..
كان العقد مغريا جدا ، يحقق له أحلامه كلها براتب شهر واحد فقط .. هذا غير الامتيازات الأخرى ..
لقد كان منا ، وكان شابا منهم .. فصار الان غريبا ، وصار واحدا منهم ..